الأرشيف

لا اليمن سعيد ولا الشام

الأرشيف
الأحد ، ٠٥ ابريل ٢٠١٥ الساعة ٠٩:١٨ مساءً

ديمة الشكر


كان اليمن، ما أن يخطر في البال، حتّى تتزاحم صور البيوت المتراكبة كالدانتيلا، والمناظر الخضراء اللازوردية، والأسماء البرّاقة؛ خطّ المسند، وملكة سبأ، وجنّة عدن، واليمن السعيد، وغيرها من الكلمات التي تحوّلت بطريقة ما إلى ما يشبه العلامة أو اللمسة الساحرة، ما أن يمسّها المرء حتّى تنفتح أمامه خزائن التاريخ كلّها أو تكاد. جمالٌ شبه منقطع النظير، وشاطئ ممتدّ لطالما أغرى الناس بركوب البحر. وحتّى بداية القرن التاسع عشر، كان من الممكن ركوب البحر العربي بمراكب بسيطة، وقصائد بالمحكية اليمنية، لعلّ من آخرها قصيدتين اثنتين لسعيد بن سليم البطايع: "الإرشادات الملاحية من سيحوت إلى جزيرة زنجبار" و"الإرشادات الملاحية من مسقط إلى بندر المخا". يكفي أن يحفظ المرء القصيدة، ويفقه معانيها الدقيقة ليمخر العباب. كاللؤلؤ المنضود تترتب الكلمات؛ فما أن تذكر المُخا، حتى تحيل إلى القهوة، أو "الموكا" كما فرنجها، لو جاز التعبير، الأوروبيون. فمن ميناء المخا كان يصدّر البنّ اليمني إلى أنحاء العالم وكان أهم سلعة وقتها. والبنّ أيضًا أصله من اليمن: "البنّ ثمرُ شجر باليمن، يُغرس حبّه في آذار، وينمو ويقطف في آب ويطول نحو ثلاثة أذرع على ساق في غلظ الأجام، ويزهر أبيض، ويُخلّف حبًّا كالبندق، وربما تفرطح كالباقلاء، وإذا قُشّر انقسم نصفين". هكذا اجتذبت تلك الحبّة الصغيرة، الإنكليز الذين أرادوا السيطرة على المخا طمعًا بالمال الذي تدرّه "اللؤلؤة النباتية" الصغيرة لو صح المجاز. واستولوا على عدن، التي فرنج اسمها الأوروبيون أيضًا، وعدّوها جنّة. فقد ميناء المخا أهميته، وازدهر ميناء عدن.

وأدّت الحروب دورها اللئيم الشهير في التهديم والتقتيل، وفي تدمير القلاع والقصور في المخا مرتين؛ أثناء الحرب العثمانية الإيطالية عام (1911) وأثناء الحرب العالمية الأولى (1915). تضافرت عوامل شتّى ولم تعد "اللؤلؤة النباتية" سلعة تدرّ المال، ومع الأيام فقدت إشعاع قيمتها، مقابل نبتة أخرى فتّاكة، لا يصحّ معها أي مجاز: القات. زحفت الفتّاكة على أراضي زراعة "اللؤلؤة النباتية"، حدّ أنها قهرتها. وربّما في قصّة النبتتين ما يصلح لأمثولة رمزية عن هذا البلد غير السعيد.

كلمةٌ تحيل إلى أخرى، وكلّ واحدة تشفّ عن تاريخ وقصّة، ولا ريب في أن الموقع الجغرافي لذاك البلد، أدّى دورًا جاذبًا لا راد له، كذا غدت عدن مكانًا "كوزموبوليتيًا" بامتياز على يد الإنكليز، وظهر فيها تنوع سكّاني يجمع بشر من قارّات ثلاث: آسيا وإفريقيا وأوروبا الطمّاعة بالطبع. زارت الملكة الإنكليزية عدن عام 1954، فطافت قصص وخبريات شتّى في أنحاء البلاد، وازداد لمعان عدن، وغدت جوهرةً تشعّ على البعيد، اجتذبت على الأقلّ ثلاثة من الروائيين اليمنيين؛ فعدن حاضرة لدى علي المقري في "بخور عدني" و لدى حبيب سروري في "ابنة سوسلوف" وفي "ستيمر بوينت" لأحمد زين. رواياتٌ ثلاث تمتح من المدينة الكوزموبوليتية، كي تسأل عن اليمن اليوم من خلال ثلاث موضوعات: الهوّية والاستعمار والدين، ومن تحت هذه الموضوعات تبرز أخرى، الافتتان أم لا بالمستعمِر؟ التسامح أم لا مع المختلف بالدين؟ القبول أم لا بمآل الشيوعية الغريب العجيب نحو التطرّف غير المفهوم؟ ثمّة في الروايات الثلاث رائحة الافتتان بالماضي القريب، وبالجوّ الذي كان سائدًا في ثنايا تلك الجنّة.

وكاللؤلؤ المنضود كلّ كلمة تحيل إلى أخرى، فماضي عدن الكوزموبولوتي، "انقطع" على ما يبدو بعد طرد الإنكليز، الذي للمفارقة كان عام 1967، عام النكسة الشهير. لكن هذا التاريخ "المشترك" بين الأمرين لا يصلح أمثولةً رمزيةً في أي حال، بل يحيلُ بدوره إلى أثرِ النكسة في بلدٍ آخر؛ أحد بلدان الطوق : سورية، التي من أسمائها الشهيرة الشام.

ففي لسان ابن منظور يرتبط البلدان المضرجّان القتيلان، على تضادّ في المعنى : "اليُمْنُ: خلاف الشُّؤم، ضدّه. يقال: يُمِنَ، فهو مَيْمُونٌ إذا صار مُبارَكاً عليهم، ويَمَنَهُم، فهو يامِنٌ، مثل شُئِمَ وشَأَم". وبالطبع يتفرّع من تحت هذا الكلام، كلام آخر عن اليدين؛ فترتبط اليمنى بالسماء والبركة، واليسرى بنقيض ذلك.

لكن المدينتين؛ عدن والشام، تتآخيان من خلال النظر إليهما كمجازٍ عن البلد، ومن خلال جمالهما. ولئن ارتبطت الجنّة بعدن، فإن للشام أيضًا منها نصيب، إذ قيل إن الرسول محمّد رفض الدخول إليها قائلًا: "إن المرء لا يدخل الجنّة مرتين".

الكلام عن الجنّة يُحيل إلى جهنم، فتُغلق الكتب، وينفتح التلفاز على نشرة الأخبار؛ لا اليمن سعيدٌ ولا الشام. من الأسلم إذن، ألا يعقد المرء مقارنات بين وضعي البلدين راهنًا، لأن "السياسة" كفيلة بتبليد الإحساس تجاه البشر/ الضحايا، من خلال كلماتها المقيتة: المصالح الاستراتيجية، توازن القوى، المؤامرة، المبادرة إلى آخر سلسلة "الاجتهاد اللغوي"، التي تشيح بوجهها عن البشر المعذّبين في البلدين.

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)