الأرشيف

عن فئران القرن الواحد والعشرين

الأرشيف
الخميس ، ١٠ ديسمبر ٢٠١٥ الساعة ٠٧:٥٨ مساءً

د.عبدالعزيز المقالح


سبق لي أن نشرت في هذه الصفحة من مجلة دبي الثقافية حديثين منفصلين أحدهما عن قطط لا تأكل اللحوم والآخر عن قطط تهرب من الفئران ولا تجد القدرة على مقاومتها. واليوم أكتب عن فئران تقاوم كل محاولة للوقوع في المصيدة، وقد تنجح في تناول الطُعْم الموضوع لاصطيادها دون أن تقع ضحيته. كما صار لديها مناعة ضد المبيدات والسموم التي يقال إنها ناجعة وسريعة الفتك. وفي لقاء ضم عدداً من الأصدقاء حكى لنا أحدهم أن فأراً أقلق منامه لثلاث ليالٍ متوالية، وأنه أعد للإيقاع به مصيدة حديثة ووضع فيها قطعة جبن من النوع الممتاز ذي الرائحة العالية التي تشد إليها أنوف الفئران من مسافات بعيدة. وقد اختفى الصديق -كما قال- في دولاب الملابس مبقياً جزءاً ضيقاً من ظلفة الباب ليرى من خلاله لحظة وقوع الفأر في الفخ لكنه بعد دقائق رأى الفأر يصول ويجول حول المصيدة بعد أن كان يتأملها من بعيد، وعندما اقترب منها بدأ يهزها بقوة لتسقط قطعة الجبنة إلى الأرض فيتناولها ويرحل بسلام.

وفي حين كان صديقنا ذاك يحكي معركته مع أحد الفئران انبرى أحد الحضور ليقول لنا حكاية مماثلة عن فأر آخر لا يقل خبرة وتمرساً في مواجهة محاولات الاصطياد فقد جاءت إليه ذات يوم ابنته التلميذة في المرحلة الإعدادية وشكت له أن فأراً صغيراً يتسلل إلى غرفتها من تحت الباب ويتسلل إلى دولاب الملابس ويهجم على قطع الشوكولاتة التي بحوزتها، تكررت غزواته ليلة بعد أخرى. ومرة وضعت تفاحة في مكان الشوكولاتة فقضم جزءاً منها ، ومرة ثانية تحدته بأصابع من الموز فلم يعجز عن خرقها من منتصفها وأكل ما قدر عليه. عندئذ لم تجد الابنة بُداً من الشكوى لأبيها لعله يجد حلاً لإيقاف ذلك الفأر عن غزواته الليلية.

 

ذهب الأب إلى السوق واختار مصيدة قيل له إنها من أنجع آليات اصطياد الفئران وعاد بها إلى البيت ووضع على رأس صنارتها قطعة شوكولاتة وانتظر مجيء الفأر بالليل ليقع أسيراً لأطماعه لكن الفأر أتى في اليوم الأول واليوم الثاني والثالث ولم يقترب من المصيدة كأنه أدرك بغريزة حب البقاء أن الوصول إلى قطعة الشوكولاتة داخل هذه الآلة قد يورده الهلاك، ولما رأى صاحبنا أن اصطياد الفأر بهذه الوسيلة أصبح أمراً مستحيلاً فقد عمد إلى البحث عن وسيلة أخرى للخلاص منه، وما زال حتى اللحظة التي كان يحكي فيها قصة ابنته مع الفأر حائراً في الإيقاع بفأر صغير يمتلك من الخبرة والدهاء والذكاء ما يؤكد أن الحيوانات المعاصرة بدأت تكتسب من المعارف والمعلومات ما يجعلها في منأى عن الوقوع في براثن الاصطياد ومحاولات الإغراء.

تطرح الحكايتان موضوعاً رمزياً على درجة من الأهمية فيما يتعلق بفئران القرن الواحد والعشرين وما أحرزته من تجارب جعلتها تستخدم فكرها المحدود قبل أن تتخذ أي إجراء أو موقف. وهو ما يفتقده البشر ومنهم عرب القرن الواحد والعشرين على وجه الخصوص، هؤلاء الذين لا يكفّون عن الازدراء بالعقل ومناصبة المنطق العداء، وهم لا يترددون عن إلقاء أنفسهم إلى الهلاك المحقق دون إعمال ما وهبهم الله من عقول وإدراكات، وهذا ما أوقعهم في هذه الحال من التخبط واللامعقولية في كثير من شؤونهم العامة. لقد قيل الكثير عن أن الإنسان حيوان ذو تاريخ وأنه يمتلك كماً هائلاً من التجارب التي تجعله مثالاً للرشد وتؤهله ليكون سيد هذا الكون الأرضي القادر على تجاوز الأخطاء والخطايا وعدم الوقوع في أصغر المشكلات فضلاً عن أكبرها وأعقدها.

عندما كان العربي صافي الذهن يمتلك ذاكرة غير معطوبة وإرادة نافذة وحامل وعي كبير، كان لاسمه دوي ولوجوده شأن. كان يومذاك ينظر إلى المستقبل وإذا ما نظر إلى الماضي فإنما ليفيد من عبرة أو يتجاوز عثرة سبق أن وقع فيها من سبقوه. لم يكن يكرر نفسه ولا يقبل أن يكرر معه التاريخ بعضاً من أحداثه حتى الناصع منها فلكل عصر إنجازاته. والفارق كبير جداً بين الأمس واليوم، والحنين إلى الأمس لا يخفف من هول الانكسارات ولا يفتح الأبواب المغلقة نحو الغد. لقد أفاد الحيوان الصغير من التحولات ولم يعد يرمي بنفسه إلى قعر المصيدة في مغامرة غير محسوبة وبات يستخدم عقله ومهاراته المكتسبة في تجنب الوقوع في المخاطر، وليس كذلك الإنسان، والإنسان العربي بخاصة حيث لم يعد قادراً على أن يفيد من تراكم الخبرات التي مرَّ بها ولا تلك التي مر بها أسلافه . ولعل غروره وشعوره بالاستعلاء على تجارب السابقين وإصراره على معاندة نفسه والتشفي منها هما السبب في وصوله إلى هذا الدرك الأليم.

*دبي الثقافية

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)