الأرشيف

الصُّلْح المليح .. بين العاميّ والفصيح !

الأرشيف
الأحد ، ٠٦ ديسمبر ٢٠١٥ الساعة ٠٦:٤٣ مساءً

تامر الأشعري


 عايشَتْ وتُعايش اللغة العربية الفصحى -في سائر الأمصار العربية- لهجات عامية، لا تحتفي بالإعراب، وتحتفظ بجملة من الألفاظ الموروثة من لغات قديمة، وببعض نغمات نطقية تختلف من قُطر إلى قُطر.

 

وبمرور الزمن أخذت تلك العاميات تحاكي الفصحى في وهجها، في فنونها، فاستطاعت أن تنتج "الأزجال" و"الزوامل" و"النوادر" و"الأمثال الشعبية"، و"الشعر العامي" المنسوب إلى شعراء بأعيانهم،  و"الخرافات والأساطير" و"الأغاني" الشفهية والمكتوبة، و"المسرحيات" و"القصص" و"الأفلام" ...

 

وكان لها قوامها الفريد، وتعبيراتها الثابتة، وألفاظها المميّزة، ومناحي تصويتاتها الخاصة، وأمثالها المسبوكة، بحيث لو تطاول عليها متفاصِح؛ لأفسد بريقها، وقتل تأثيرها؛ لأن إيرادها على وجهها أقوى تأثيرا، وأفتك مفعولا مما لو وردت مفصَّحة، وخصوصا عند من تعوّدها، فصار  يفهمها ويتذوقها، ويستشف أسرار جمالها بالطبع والسليقة.

 

ولا ريب في أن حقول استمداد هذه الحيثيات التعبيرية متنوع المشارب، التي منها –بطبيعة الحال- الاختلاط بالأجانب فُرسًا وأحباشَ وهنودَ وإنجليز  وأتراك ..

 

فاقتحمتها طائفة من المفردات الأجنبية، كـ(قلص) الإنجليزية، و(بس) الهندية، و(كُنْدُرة) و(طاوة)، و(فنجان) التركية، و(بومبة) و(طاولة) و(فاتورة) و(ورشة) الإيطالية.

 

وعلى الرغم من كل ذلك؛ فإن اختلاف اللهجات وتنوع أصواتها، وغزارة مفرداتها؛ لا يضر مطلقا بالعربية الفصحى، فالإمالة مثلا، وصور نطق الجيم بين مخففة ومعطشة ... كل ذلك مما يضفىي على لغة التخاطب رونقا حبيبا إلى النفس في الاستعمالين العامي أو الفصيح.

 

وكيف يمكن أن يعبر الناس عن أدوات حياتهم اليومية وآلاتها ومستلزماتها بغير العامية؟. وهل يمكن أن يقول عاقل : إن جميع العامة يجب أن يزايلوا لهجاتهم التي نشأوا عليها منذ طفولتهم وكابرا عن كابر، وأن ينتقلوا عنها – فورا- إلى اللغة الفصحى؟!

 

وكيف ذلك؟. واللهجات في كثير من جوانبها ليست سوى افراز من إفرازات الفصحى، فهي لا تغير بنية المفردات تغييرا جوهريا، كما أن في كثير من أمثالها وصورها إدهاشا لا تنتجه إلا عقول عبقرية، كقولهم : (آسف ! كان حبّك بعدْ قات)، وقولهم : (حافِي في زمن كلّه مداعس)، وقولهم : (يدْ ما تسرَقش .. ما تِخَفْش)، وقولهم عن البخيل : (يمصّ الذّبَاني ويرجُم) !!

 

كما أن استعمالها للمفردات لا يبتعد بمدلولاتها عن جادة العربية الفصحى، بل على العكس من ذلك؛ نجد في العامية مفردات ذات مدلولات فصيحة جدا، في مقابل اندثار تلك المفردات ودلالاتها في الاستعمال الفصيح المعاصر، من ذلك مثلا : (بَطَح/عَكَم/كظَم/تَحَلحَل/أفّ للتضجر- وهي في القرآن-/يستاهل، بمعنى : يستحق/اتحركش، للدلالة على : التحرك والتريث)...

 

وحتى مفردات (اللغة الخفية)أو (اللغة السرية) -أعني لغة التعبير عن الممارسات الجنسية- جُلُّها إن لم تكن كلها عربية فصحى ..!

 

وبإزاء ما سبق قوله؛ يقف المتفاصحون موقفين  :

 

موقفًا يوبّخ كل من تكلم بالعامية، وخصوصا في بعض المناسبات أو المقامات الرسمية، ويخاطبهم بنبرة متعالية كل ما لديه من خيارات هي : قل ولا تقل ..! فحينئذ يغرق المتكلم بالعامية في بركة من الخزي والعار، ويتبخّر كل أمل لديه في الكلام من أصله  !

 

وموقفًا يُسدد ويقارب، ويمزج الاستعمالين : العامي والفصيح في وقته ومكانه المناسبين، وبذلك تقوى وشائج الأخوة والمصالحة بين المستويين.

 

وتأسيسا على ما سبق؛ أدعو الباحثين المهتمين بالدراسات اللغوية؛ إلى إنشاء معاجم للعامية اليمنية، فلعلها تفسر لنا كثيرا من ظواهر العربية القديمة، وأخواتها الساميات، كونها منحدرة أساسا عن اللغة الحميرية القديمة ولهجاتها.

 

كما أقترح تأليف مجامع للأمثال الشعبية اليمنية؛ ليُستكمل الجهد الذي بذله بعض الباحثين في ذلك.

 

وبعدُ؛

 

فإني لا أظن أن العربية ستضمحلّ، فهي لغة المنابر والمحابر والدفاتر... ولا أحسَبُ العامية ستموت، فهي لغة الزوامل والمهاجل والمقايل . ..

 

وإذَن ..

 

فلم افتعال الخصومة بين العامي والفصيح، وقد أمكَن أن نعقد بينهما صُلحًا، و"الصلحُ خيرٌ"؟!

شريط الأخبار