الأرشيف

صنعاء.. الصراع بين التقليدية والحداثة

الأرشيف
الثلاثاء ، ٠١ ديسمبر ٢٠١٥ الساعة ٠٣:٠٠ صباحاً

مندب برس-الشرق الاوسط


تشِّكل رواية «صنعائي»? للقاصة والروائية اليمنية نادية الكوكباني? منعطًفا مهًما لجهة تعاطيها مع مدينة صنعاء كبطل حقيقي من أبطال الرواية? وعنصر فاعل
من عناصرها الرئيسية التي هيمنت على مدار النص منذ جملته الاستهلالية حتى الجملة الأخيرة التي ختمت بها الرواية وكانت حاضرة بقوة حضور الكائن الحي
تماًما? فهي تتنفس? وتشُعر? وُتحب? وُتحاَصر? لكنها لا تموت لأنها خالدة في عقول اليمنيين وقلوبهم? ونابضة في وحدات الدم التي تجري في عروقهم
وشرايينهم.ِمن هنا فإّن أي دراسة نقدية لهذه الرواية سوف تكون قاصرة ما لم تأخذ صنعاء في الاعتبار وتضعها في مقدمة الشخصيات? ذلك لأنها الشخصية
الرئيسية التيُتهيمن على المسار السردي ولا تترك لبقية الشخصيات على الرغم من أهميتها إلاّ أن تكون شخصيات ثانوية أو مؤازرة في أفضل الأحوال.
لا شك في أن صنعاء هي القطب المغناطيسي الجاذب لكل الأحداث والشخصيات? بدًءا من الرواة الأربعة للنص وهم صبحية? وحميد? وغمدان? وحورية المسك?
وانتهاًء بـ«الفندم» الذي يحب هذه المدينة بطريقته «الأنانية» الخاصة التي أوصلت البلاد إلى شفير الهاوية.
تقوم هذه الرواية على بنية معمارية رصينة يمكن أن نرّدها إلى التخصص الدقيق للكاتبة? فهي مهندسة معمارية متخصصة في نظريات التصميم المعماري? وقد
وجد التصميم الهندسي الدقيق طريقه إلى الرواية فحَبكها مثلُتحفة فنية تماهى فيها جمال الشكل مع عظمة المضمون? ليخلق في خاتمة المطاف نًصا من نسيج
وحده? كما يحتفي بالعديد من عناصر الترقب والمفاجأة والإدهاش.
ثمة أسرار كثيرة وشخصيات غامضة في هذه الرواية? أولاها شخصية جبران علي? والد الراوية صبحّية? والمرأة الغامضة حورية الِمسك? ورجل المأدبة?
والغامض الكبير حميد? وشخصية الفندم الأكثر غموًضا لأنها هي الأقدر على ملء المساحات المختفية في النص.
لاُتعِّول الكوكباني على عنصر محدد من عناصر الرواية كالحدث? أو الشخصية? أو الزمكان? أو اللغة? ذلك لأن رهانها ينصب على معالجة الحدث بطريقة فنية
تكشف عن التناغم الدقيق بين العناصر آنفة الذكر بطريقة لا تسمح بتسّيد عنصر على آخر? وإنما تتيح لها أن تتناضح ويغّذي بعضها بعًضا مثل الأواني
المستطرقة? إذ تبدو كل الشخصيات على مستوى واحد من البوح والمكاشفة وإن اختلفت الأدوار? وتقاطعت المصائر.
يتصاعد عنصر التشويق منذ الفصل الأول الذي يلتقي فيه حميد بصبحّية وُيحبها? لكنها لم تكن المرأة الوحيدة التي تستقطب مشاعره? فهوُموَّزع بين زوجته?
وحورية المسك في الأقل? هذا إذا وضعنا جانًبا النساء الثلاث اللواتي أحبهّن في صباه وشبابه. ومع ذلك فإنه خاطب صبحية قائلا: «أحبِك يا زهرة ويا نجمة في
الفضاء المعلق مثل فتى قروي فتنتُه المدينة وبهجتها. أنا في مقام الُحب? بل هو مقام الوجد الذي سيبعثني للحياة من جديدُصبحيتي» (ص125). وإذا كان حميد
معلًّقا في مقام الوجد فعليه أن يفي بشروط المحبة والتوّحد بالمحبوبة عن طريق الزواج? لا أن يطرح عليها سؤالا جارًحاُمدمًرا من قبيل: «كم عرفِت قبلي من الرجال؟» (ص?(168 ليخذلها ويكشف لها أنه مجرد حبيٍب من ورق? وعاشٍق من أوهام لم يقِّدر جرأتها وهي تمشي معه في شوارع صنعاء القديمة من دون أن
تقيم وزًنا لرأي الناس لأنها تحبه بصدق ولا تجد غضاضة في التعبير عن مشاعرها الداخلية لرجل أحبته بكل جوارحها واطمأنت إليه من دون أن تعرف ماضيه
الغامض الذي سوف يتكشف تباًعا.
يمتلك حميد ثقافة واسعة? ومعرفة جيدة بالفن التشكيلي? أسهمت في توسيع المساحة المشتركة بينهما? وأتاحت لهما تكرار اللقاءات سواء في مرسمها أو في بعض
المقاهي المبثوثة في قاع المدينة القديمة. فهي أصلا فنانة تشكيلية مبدعة تنجز أعمالا لافتة للانتباه? لكن حميد طعنها في الصميم حينما اعتبرها امرأة عابرة في
حياته? ولم يتخيلها أًما لأطفاله القادمين? وهي التي رفضت أن تقيم أي علاقة عاطفية قبل أن تتعرف عليه لأن نقطة النور الكامنة في قلبها هي التي قادتها إليه.
تتكشف شخصية حورية المسك حينما تبوح لصبحية بكامل قصتها العاطفية مع حميد الذي لم يفكر بها كزوجة أيضا لأن وهج الُحب? من وجهة نظره? يذوي
عندما يصل إلى مرحلة الزواج.
يزيل غمدان الِصبري جانًبا من الغشاوة حينما يبوح بقصة والده الذي قُتل أمام البنك فلقبوه بالسبع? لكن المتخاذلين والفاّرين من أرض المعركة أو «حصار
السبعين يوما» عادوا ليسّطروا بطولاتهم الُمختلقة ويقولوا بالفم الملآن: «لن يحكمنا أبناء المناطق الشعبية ونحن وجهاء القوم» (ص223).. في حين أن هؤلاء
الشعبيين هم الذين صمدوا بوجه القوات الملكية ومنعوها من الاستئثار بالسلطة ثانية.
ربما تكون الرسالة التي خبأتها الأم عن صبحية لمدة تسع سنوات هي التي أماطت اللثام عن كل شيء? فعرفت أن والدها كان مناضلا? وأن جوهر الصراع في
المجتمع المدني كان بين القوى التقليدية التي تخشى من قوى الحداثة والمدنية التي جّسدها شباب الجيش وشرائح واسعة من المجتمع المدني أثناء الدفاع عن
مدينة صنعاء المحاصرة.
لم تترك الكوكباني تيمة إلاّ وطرقتها في هذه الرواية التي تجمع بين الأدب والفن? والتاريخ والسياسة? والحب والخيانة? والسجن ودهاليزه السرية في صنعاء?
وبالذات «سجن القلعة» الذي كانت تزج فيه السلطات المجانين الذين يصرخون طوال الليل ليمنعوا السجناء حتى من نعمة الإغفاءات الخاطفة!
يمكن القول إن حميد ووالدها فّضلا الهرب بدلا من المواجهة والتصحيح? فلقد هرب الأب أمام حفنة من الانتهازيين? بينما هرب «العقيد المتقاعد» حميد أمام ثلة
من الفاسدين سوف ينهبون ثروات البلد ويضعون مقّدراته بيد عائلة واحدة أو شخص واحد سوف يظل جاثًما على صدور اليمنيين نحو أربعة عقود تقريًبا. يسلّط
الفصل السابع الضوء على شخصية «الفندم» الذي سأل الراوية عن أبيها وكأنه يعرف جميع المناضلين اليمنيين? لكنها اكتشفت بحس الأنثى أن الرئيس الذي
يصافحها ويربت بيده الأخرى على يدها إنما يوحي بإعجابه بها? ورغبته الفاضحة فيها. إن هذا المشهد الذي استمر لبضع دقائق معدودات يكشف للقارئ دناءة
النفوس الصغيرة التي لا تتناسب مع منصب الرجل الأول في الدولة.
لم تهمل الكوكباني الجانب السياسي منذ ستينات القرن المنصرم حيث يصادف القارئ أسماء الرؤساء الستة الذين تناوبوا على حكم اليمن? وهم عبد الله السلال?
عبد الرحمن الإرياني? إبراهيم الحمدي? أحمد الغشمي? عبد الكريم العرشي? وعلي عبد الله صالح الذي حّول البلاد إلى ضيعة تابعة له ومسرح لحروبه العبثية
التي سحقت البلاد والعباد.
كانت دعوة القصر الجمهوري نقطة مفصلية جمعت العديد من النقائض والأشخاص الذين أسهموا لاحًقا في حل العقدة الروائية? حيث يأتي حميد وغمدان في
زيارة لمرسمها وكل واحد منهما يحمل الصورة الجماعية التي التقطوها مع الفندم في القصر الرئاسي كي تعّرف الناس بتاريخ والدها وبتضحياته الجمة من أجل
الوطن. وافقت صبحية على الفكرة شرط أن يتركوا لها حرية اختيار المكان الذي ستضع فيه الصور الجماعية الثلاث.
وفي الختام لا بد من التنويه ثانية بأن لغة الكوكباني السلسة هي عنصرُمضاف من عناصر النجاح التي تشتمل عليها هذه الرواية الجميلة شكلا ومضمونا.

 أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)
أمريكا تتهم إيران بزعزعة الاستقرار في المنطقة ( كاريكاتير)