في غمرة الاضطرابات الجيوسياسية والاحتباس الحراري في العالم، تشهد طرق الشحن اضطرابا كبيرا. ففي غضون بضعة أشهر فقط، واجهت حركة المرور البحرية تعقيدات كبيرة على طريقين يعتبران حاسمين للتجارة العالمية.
وأربكت الصراعات المسلحة في الشرق الأوسط وأوكرانيا، إلى جانب التأثيرات الناجمة عن الاحتباس الحراري، حركة الملاحة البحرية، حيث أجبرت الدول على استخدام طرق بحرية جديدة، مكلفة ماليا ومناخيا.
تراجع حركة الملاحة في عدة مضايق
شهدت قناة بنما، التي تربط المحيطين الأطلسي والهادئ وتمر عبرها 5% من التجارة البحرية العالمية، انخفاضا في حركة المرور بنسبة 30% بسبب الجفاف غير المسبوق الذي أدى إلى انخفاض منسوب المياه في الأقفال.
وبات يتعين على السفن التي تربط الصين بالساحل الشرقي للقارة الأميركية الانتظار عدة أسابيع ودفع مبالغ كبيرة للحصول على حق المرور، أو تفريغ بضائعها لنقلها برا.
وعلى الطرف الآخر من الكوكب، فقد الطريق الاستراتيجي الذي يربط أوروبا بآسيا عبر قناة السويس والبحر الأحمر 40% من حركة المرور منذ ديسمبر 2023، في أعقاب الهجوم الإسرائيلي على غزة.
وفي اليمن، يقوم الحوثيون المدعومون من إيران، والذين يقولون إنهم يستهدفون السفن “تضامنا” مع الفلسطينيين، بتكثيف هجماتهم حول مضيق باب المندب.
وعلى الرغم من انخفاض عدد الحوادث منذ نهاية يناير، لا يزال التهديد مرتفعا، وكذلك أسعار التأمين على البضائع والسفن.
وتفضل العديد من السفن الآن الإبحار على طول الساحل الأفريقي، عبر رأس الرجاء الصالح، مما يزيد من أوقات النقل وتكاليفه. ومنذ غزو روسيا لأوكرانيا في 24 فبراير 2022، أثرت اضطرابات الشحن في البحر الأسود بشكل كبير على تجارة الحبوب العالمية.
واضطرت مصر، التي انخفضت وارداتها من القمح الأوكراني بنسبة 81% في الأشهر الثمانية الأولى من الصراع، إلى طلب إمدادات الطوارئ من روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وفي الوقت نفسه، اتجهت إثيوبيا نحو الأرجنتين والولايات المتحدة، وفق تقرير لصحيفة “لوموند” الفرنسية.
فاتورة اقتصادية ومناخية مكلفة
يترجم التأثير التراكمي لهذه الاضطرابات، إلى مسافات طويلة لنقل البضائع، وتصاعد تكاليف التجارة، وزيادة في انبعاثات الغازات الدفيئة الناجمة عن اضطرار الشحن إلى السفر لمسافات أكبر وبسرعة أكبر.
ويقول “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” (unctad) إن تجنب قناة السويس وبنما يتطلب مزيدا من أيام الشحن، مما يؤدي إلى زيادة النفقات.
وقد ارتفع السعر اليومي لأقساط الشحن والتأمين، مما أدى إلى تفاقم التكلفة الإجمالية للعبور.
بالإضافة إلى ذلك، تضطر السفن إلى السفر بشكل أسرع للتعويض عن التحويلات، وحرق مزيد من الوقود لكل ميل وانبعاث مزيد من ثاني أكسيد الكربون، مما يزيد من تفاقم المخاوف البيئية.
ويشدد المؤتمر الأممي على الآثار الاقتصادية البعيدة المدى المترتبة على هذه الاضطرابات. إذ تشكل الانقطاعات الطويلة، خاصة في شحن الحاويات، تهديدا مباشرا لسلاسل التوريد العالمية، مما قد يؤدي إلى تأخير عمليات التسليم وارتفاع التكاليف.
وفي حين أن أسعار الحاويات الحالية تبلغ ما يقرب من نصف الذروة خلال أزمة جائحة كورونا، فإن نقل أسعار الشحن المرتفعة إلى المستهلكين يستغرق وقتا، ومن المتوقع أن يظهر التأثير الكامل في غضون عام.
وتشهد أسعار الطاقة ارتفاعا كبيرا مع توقف عمليات نقل الغاز، مما يؤثر بشكل مباشر على إمدادات الطاقة، خاصة في أوروبا.
وتنعكس الأزمة أيضا في أسعار المواد الغذائية العالمية، حيث من المحتمل أن تؤدي المسافات الطويلة وارتفاع أسعار الشحن إلى زيادة التكاليف. وتشكل الاضطرابات في شحنات الحبوب من أوروبا وروسيا وأوكرانيا مخاطر على الأمن الغذائي العالمي، مما يؤثر على المستهلكين ويخفض الأسعار المدفوعة للمنتجين.
ومنذ الهجمات التي شنها الحوثيون في البحر الأحمر، اختار العديد من مالكي السفن تجاوز أفريقيا، على الرغم من ارتفاع التكاليف والتأخير.
ويؤدي هذا الانعطاف إلى تراجع الخدمة المقدمة إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط. القرصنة يعتبر خليج غينيا، المنطقة البحرية الأكثر خطورة في العالم، إذ يمثل نحو 90٪ من جميع عمليات الاختطاف في البحر.
وعلى الرغم من أن هذه المنطقة لا يعبرها طريق تجاري رئيسي، إلا أن القراصنة أصبحوا الآن قادرين على الهجوم بشكل مكثف، مما يعقد عمليات المراقبة والإنقاذ.
ويعد هذا المضيق ممرًا أساسيًا بين آسيا وأوروبا، وهو ثاني أكثر المضيق استخدامًا بعد هرمز لنقل النفط.
تمر سفينة كل ثماني دقائق، على الرغم من ارتفاع مخاطر القرصنة.
ومع تصاعد التوترات في بحر الصين، تجري الآن دراسة طرق بديلة، مثل حفر قناة عبر برزخ كرا في تايلاند، أو إنشاء ممر بري عبر بورما. ولا تحظى هذه المشاريع بالإجماع من قبل البلدان المعنية.
الصين وتايوان..
وحرب التعريفات بين واشنطن وبكين تكثف الصين، التي تدعي السيادة على تايوان، إجراءات الترهيب حول الجزيرة، مما يعطل حركة المرور على هذا الطريق الاستراتيجي، الذي مرت عبره 48% من سفن الحاويات في العالم في عام 2022.
ومن شأن تجاوز المضيق أن يدفع السفن نحو المياه الفلبينية، والتي تتأثر بالأعاصير. تعمل هذه التوترات التجارية على إعادة تشكيل تدفق البضائع، التي يتم نقل 80% منها عن طريق البحر، وكذلك العلاقة المتدهورة بين بكين وواشنطن، على خلفية حرب التعريفات الجمركية.
وقد انخفضت حصة الحاويات من الصين التي تم تفريغها على الأراضي الأميركية من 40٪ في عام 2017 إلى 31٪ في عام 2022.
ولكن خلال الفترة نفسها، ارتفعت حصة فيتنام من 4٪ إلى 8٪، ومن 3٪ إلى 5٪ من الهند.
خطر العواصف والفيضانات البنية التحتية للموانئ معرضة بشكل خاص لمخاطر العواصف والفيضانات، والتي تفاقمت بسبب ظاهرة الاحتباس الحراري.
ففي صيف عام 2023، ضرب إعصار دوكسوري الصين، ما تسبب في أسوأ فيضانات منذ نصف قرن، في بكين، وأجبر الموانئ الرئيسية في جنوب شرق البلاد على إبعاد عشرات السفن، إلى درجة تعطيل سلاسل الخدمات اللوجستية العالمية.
ويمكن لذوبان الجليد أن يفتح هذا الطريق ويختصر الرحلات بين أوروبا وآسيا. لكن ذلك لا يزال بعيد المنال، لأسباب عدة، أبرزها، عدم وجود بنية تحتية للموانئ للسفن ذات الحمولات الكبيرة.
وهذا الطريق، الذي يكون مفتوحا لجزء من العام، متاح فقط لسفن معينة مجهزة للظروف القاسية، أو ترافقها كاسحات الجليد الروسية.
نزاعات الصيد أشار لويس بورير، محلل الأمن البحري في شركة ريسك إنتليجنس، في حديثه للصحيفة الفرنسية، إلى أن “الهجمات، المرتبطة على الأرجح بنزاعات الصيد غير القانوني، تستأنف قبالة سواحل الصومال وفي المحيط الهندي منذ نوفمبر 2023″.
وتابع في إشارة إلى تفاقم الوضع ” لقد تم الإبلاغ عن مزيد من الهجمات لا سيما في خليج غينيا، وهو بؤرة القرصنة في العالم، مع هجمات عنيفة ومعقدة وبعيدة المدى في بعض الأحيان”.