الرئيسية > ثقافة وفنون > التيه في «تاكسي طهران» بعيداً عن السينما

التيه في «تاكسي طهران» بعيداً عن السينما

التيه في «تاكسي طهران» بعيداً عن السينما

يضع فيلم» تاكسي طهران» للمخرج الإيراني «المُعاقَب» في بلده، جعفر بناهي مشاهده النافر في مأزق. فهو إن صرّح بعدم الإعجاب يشعر وكأنه أدى خدمة لنظام منع قضاؤه بناهي من أبسط حق من حقوق الإنسان ألا وهو العمل.

 

وإن لم يصرّح وسار مع الموجة التي تنزل كل ما يقدمه هذا السينمائي مهما كان مستواه منزلة مقدسة، شعر بعدم الارتياح للسير ضمن تيار يهتف بحماس مثير للدهشة لبناهي «المتمرد سياسياً» و»الشجاع المتحدي للمنع».

ربما كان أفضل الحلول إقناع النفس بأن الفيلم جيد وأن هذا أقصى ما يمكن أن يحققه مخرج في وضع بناهي محروم من تحقيق الأفلام في بلده لمدة عشرين عاماً لأسباب سياسية وعليه حكم قضائي بالسجن ست سنوات (مع وقف التنفيذ). لكن، على رغم كل المحاولات المخلصة لإيجاد التبريرات فإن «بناهي» توصّل إلى إدهاشنا من جديد عند حضور «تاكسي طهران» مؤخراً. لقد جاء الفيلم أسوأ بكثير من كل التوقعات.

 

قد يعود السبب لمشاهدته بعد هدوء الضجيج «الإيجابي»، لاسيما في الغرب، الذي أثير بعد فوزه في مهرجان برلين الأخير وبالتالي التحلي بموضوعية حتّمت الحكم على الشريط بعيداً من أي تأثير إعلامي أو سياسي أو إنساني... بل فقط سينمائي.

 

كنا خمسة في الصالة الباريسية التي كانت تعرض الفيلم ثلاثة عروض أسبوعية فقط، ثمة عروض متفرقة في بضع صالات مستقلة مرة أو مرتين أسبوعياً لهواة النوع. لقد خرج الفيلم سريعاً من دور العرض الفرنسية الكبرى، ولم يحظ بإعجاب من الجمهور ضاهى قدر إعجاب النقاد به في فرنسا. فعلى رغم نيله الجائزة الأولى في برلين، والنجوم الخمسة التي وهبتها له معظم الصحف الفرنسية، والدعاية الكبرى التي كرست له في فرنسا، والوضع السياسي لصانعه، لم يجذب «تاكسي طهران» سوى 278386 متفرجاً في فرنسا (قد يصل الرقم إلى 300 ألف في أفضل الأحوال)، وهذا رقم ضئيل حقاً قياساً إلى كل ما ذكر.

 

كشف المكشوف

يبدأ الفيلم بداية مبشرة. ثمة كاميرا ثابته ترصد من خلال واجهة سيارة حركة شارع في طهران، ثمة راجلون وراكبون وواقع حياة بكل ما فيها من عادية وحيوية. إنما، حين تقرر «التاكسي» المسير ويبدأ الناس بالصعود إليها يبدأ الهبوط ... في سيارة «الأجرة» التي يقودها بناهي نفسه ثُبتّت ثلاث كاميرات «خفية».

 

هو أراد ان يصنع فيلماً يرصد فيه أحوال بلده وناسه من خلال الصاعدين والنازلين إلى التاكسي. لقد اكتشف مؤخراً، على ما صرح به، أن الكثير من الأحاديث تدور «بحرية» بين ركاب تاكسيات طهران فقرر أن يجوب شوارع العاصمة الإيرانية متنكراً في دور سائق ليستمع للناس. من المؤكد أن السيد بناهي لم يستقل كثيراً وسيلة المواصلات تلك في طهران ليعرف أن انتقاد الأوضاع بهذا الشكل الصارخ مغامرة لا يقدم عليها عاقل في تاكسي عمومي!

 

تتناوب على السيارة شخصيات مختارة بعناية لتنتقد أحوال إيران. السائق، - الذي تعرّف عليه بعض الركاب في الفيلم، لكنه هو أنكر معرفتهم حتى لا يكشف نفسه في خدعة تريد إقناع المشاهد بصدقية المواقف -، لا يتوقف لأي كان بالطبع بل لهؤلاء الذين قرر مسبقاً استضافتهم، وهم بالمناسبة أصدقاء وأقرباء ومحامية معروفة...

 

شخصيات حاول تمريرها كأنها حقيقية مأخوذة بالصدفة من الواقع فيما هي منتقاة لتعبّر بحوارات مفتعلة عن وضع المرأة في القوانين الإيرانية المعتمدة الشريعة، والرقابة المطبّقة على الأفلام وصانعيها، والقضاء وأحكامه الجائرة لا سيما الإعدام، وانتهاك حقوق الإنسان، كما مرّت الحوارات في طريقها على سياسة التعليم في المدارس الإيرانية التي تحشو أذهان الصغار بكل ما يعيق انطلاقهم ... أي كل تلك الأوضاع، لا سيما منها الرقابة والمرأة، التي لا ينفك بناهي يثيرها في افلامه منذ ما قبل الحكم عليه (2010)، والتي تظهره في مقدمة المشهد كمقاوم ثائر على نظام الملالي و»جريء» يخاطر بحياته ليكشف...المكشوف. إنه يلعب، ليس بكثير من الذكاء، على ما يثير إعجاب بل حماس الغرب وينجح لظهوره بمظهر المتحدي لنظام الملالي. وإن كان في أيام حريته قد تمكن من إثارة هذه المواضيع بذكاء وفن فإنه بات اليوم، ويا للأسف لمخرج في قيمته، يثيرها بأسلوب مضجر مكرر لا ابداع فيه.

 

ثرثرة وافتعال

 

فالفكرة لا ابتكار فيها وقد أخذها بناهي عن معلمه كيارستمي في فيلمه «عشرة». بالطبع لا سوء في هذا شرط أن يقدم جديداً في المعالجة كما فعل في فيلمه الرائع «البالون الأبيض». لقد كان بينا منذ بداية الفيلم أن بناهي قرر لفيلمه «الواقعي» هذا لائحة الانتقادات، وأنه اختار ممثليه ووزع الأدوار عليهم، ونفذ ذلك بأسلوب شديد الافتعال، فأتت المواقف غير مبررة والسرد بعيداً عن المنطق لا سيما لفيلم أريد له أن يكون «راصداً للواقع كما هو».

 

ظهر هذا أكثر ما ظهر مع صعود الجريح العجوز وزوجته الشابة للتاكسي كدافع اخترعه المخرج فقط كي ينتقد بطريقة فجة قوانين الإرث المسيئة للمرأة والمطبقة في إيران، كما كان المشهد الذي صور صعود المرأتين مع سمكتهما ليبين اعتقاد مواطنيه بالغيبيات وربط معظمهم ممارسات الزرداشتية والإسلام في ثرثرة فارغة وغير واضحة لكثيرين، كان هذا المشهد ثقيلاً رغم أنه بدا وكأنه محاولة من بناهي لإدخال بعض الخفة والفكاهة على فيلمه فأدى عكس المراد. لا يضيف الفيلم جديداً إلى ما يقال وقاله بناهي شخصياً عن إيران. أما كاميراته «الخفية» التي لم تكف عن الحركة بطريقة مزعجة وغير مبررة فلم تكن خفية.

 

ووصلت السخرية من المشاهدين أوجها حين كُتب على الشاشة «لا جنيريك للفيلم حرصاً على المشاركين فيه وحماية لهم»! أحد أمرين إما أن سلطات بلده على درجة من الغباء لا تسمح لها بالتعرف على المشاركين في الفيلم من خلال الصورة، أو أن المشاهد هو الغبي ليصدق ذلك.

 

هوية الفيلم تائهة بين الروائي والوثائقي، فإن اعتبر روائياً فقد فشل المخرج في إدارة ممثليه وإن كان وثائقياً فهو لم ينجح في إقناع المشاهد بحقيقة وواقعية الأشخاص. لا أدنى تعاطف من أي نوع مع الشخصيات ولا أدنى روح من المرح ولا اكتشاف ولا...سينما.

وكأن المخرج يلعب على الوتر الذي يناسب الغرب وكأنه كما كتب مشاهد فرنسي «يحاول الكسب باستغلال جمهور(غربي) جاهز لتقبل فوري لكل ما يصدر منه. لو كنت إيرانياً لشعرت بالإهانة». هذا ما حصل. إحدى الإيرانيات الباريسيات (معارضة لنظام بلدها) كانت على وشك مغادرة القاعة غضباً من هذا الذي يريد أن «يصعد على ظهور الإيرانيين»، كما اعترفت صديقة إيرانية تعمل في المجال السينمائي برفضها المشاركة في هذه المهزلة ودفع الفلوس للذهاب لمشاهدة فيلم لبناهي!

 

لعل شخصية جعفر بناهي المتمردة هي من ربحت الجائزة وليست فنية عمله. أما السؤال المطروح فهو هل تكفي الاعتبارات السياسية للحكم على فيلم؟ وهل لو كان إيراني آخر أو حتى فرنسي حقق مثل هذا الفيلم نال كل ما ناله بناهي؟ في الفن لا يجب الحكم سياسياً، ثمة فارق بين التعاطف مع المخرج والتنديد بكل قوة بالأحكام الجائرة عليه، وبين إعطاء إنتاجه أكثر مما يستحق.

 

كتب الناقد الإيراني المعروف حميد دباشي «الناس يمتدحونه خالطين تضامنهم السياسي معه بحكمهم السينمائي».

شريط الأخبار